الثلاثاء، ديسمبر 16، 2008

القدوة


حتى تكون القدوة صالحة ،لا بدّ من ...
صفات القدوة الصالحة: 1 ـ إقتران القول والعمل :
فالقدوة الصالحة تقول خيراً وتعمل خيراً ، فلا تجد تناقضاً بين منطقها وسلوكها ، ولذلك كان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والأولياء قدوات صالحة لأ نّك تجد اندغاماً وانسجاماً واضحاً بين ما يقولون وبين ما يجسّدون من تلك الأقوال ، وهذا ما دعا القرآن إلى اعتبار التناقض أمراً ممقوتاً عند الله (يا أ يُّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ).
2 ـ حيازة مؤهلات وصفات مؤثرة :
فلكي يكون شخصٌ قدوة لغيره لا بدّ أن يمتاز عليه بسمة أو سمات عديدة يفتقدها المقتدي أو بعضها ، فيسعى للسير على منوال القدوة من أجل اكتساب مثل ما لديه من مؤهلات وصفات حميدة .
وكلّما كانت القدوة حائزة على مؤهلات أكبر ، كانت قوّة الدفع أكبر ، ولذا يُنصح الشبان والفتيات بعدم حصر قدواتهم في النماذج المحدودة وإنّما الانطلاق نحو القمم ، ولذلك قال الشاعر : ومَنْ يتهيّب صعودَ الجبال***يعش أبدَ الدّهرِ بينَ الحفر
3 ـ الثبات على المبادئ :
القدوة الصالحة ليست قدوة موسمية تؤثر لبعض الوقت أو في أماكن محدّدة ، إنّما هي ذات تأثير وجاذبية أينما حلّت وارتحلت (وجعلني مباركاً أينما كنت ) فالثبات يعطي الانطباع عن الصدق والصبر والتحدي والإيمان العميق بالمبادئ التي يحملها القدوة ، بعكس التذبذب أو التردد أو التراجع أو التساقط .
إنّ الإنسان الشاب أو الفتاة قد ينهار تحت الضغوطات لكنّه إذا تذكّر الثابتين الصامدين ، المقاومين في عناد ، خجل من نفسه واتّكأ على جراحه ، وواصل المسير .
4 ـ العمل على السجيّة وعدم التكلّف :
كلّما كانت القدوة تتصرّف بوحي من ثقتها بنفسها وإيمانها ، وعلى سجيّتها دونما تصنّع ولا تكلّف ولا تمثيل ، شدّ ذلك الأنظار إليها . فالقول الحسن لدى القدوة يطفح كما الماء من الينبوع بعفوية وتلقائية ، والفعل الحسن يصدر عنها كما يصدر الشعاع عن الشمس والعطر من الوردة ذاتها .
إنّ الوردة لو أرادت أن تتعطّر بعطر غير عطرها فلربّما فاح ذلك العطر مؤقتاً لكنّه لا يمثل أنفاس الوردة العاطرة ، وإنّما هو شيء طارئ ودخيل عليها . وكذلك القدوة ففعلها وقولها ليس طارئاً وإنّما هو من شمائلها .
والنفس الإنسانية ميّالة بطبعها إلى الإنسان الصادق مع نفسه ومع الآخرين ، والذي يتصرّف بنقاء شبيه بنقاء الماء والشعاع والعطر ، وهذا هو السبب الذي يجعل بعض الناس يؤثر فيك من غير أن يتكلّم معك ، فسلوكه وحده قدوة ، وهو السبب ذاته الذي يجعل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يقول : «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم ، حتى يروا منكم الصدق والصلاح والورع ، فذلك داعية» .
وقد ثبت تربوياً أنّ (التربية غير المباشرة) العملية ، أكثر تأثيراً من (التربية غير المباشرة) القولية .
5 ـ آمرة مؤتمرة .. ناهية منتهية :
وهذا هو التطابق بين الإيمان وبين العمل ، فحتى تؤتي القدوة تأثيرها ، لا بدّ أن تعمل بما تأمر به ، حتى إذا رأى المؤتمرون فعلها بما تأمر صدّقوها وأخذوا بأوامرها .
كما لا بدّ أن تنتهي عمّا تنهى عنه من شر أو منكر أو سوء أو خبث أو بذاءة ، فإذا لم يلحظ المنتهون ذلك ، أو رأوا عكسه وبخلافه ، عابوها وانتقصوا من قدرها وسخروا منها ، وفي ذلك يقول الشاعر : لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله***عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
ولو راجعت قصص القدوات الصالحة لرأيت هذا الشرط واضحاً في سلوكهم فكانوا لا يأمرون بشيء حتى يسبقوا الناس إلى العمل به ، ولا ينهون عن شيء إلاّ ويسبقون الناس أيضاً بالإمتناع عنه .
6 ـ تعترف بالخطأ وتسعى لتصحيحه :
القدوة قدوتان .
قدوة معصومة لا يتطرّق الخطأ إلى أقوالها وأفعالها ، كما هم الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الذين يشبههم البعض بالشموس الساطعة التي كلّها نور ، ولأنّ المراد منها أن تنير عقول الناس وقلوبهم وحياتهم ، فلا يصحّ أن يكون هناك شيء من الظلمة ولو قليلا .
وهناك قدوة غير معصومة ، قد يصدر عنها الخطأ لكنّها تسارع إلى معالجته وتفاديه والاعتراف به وعدم الإصرار عليه أو تكراره مستقبلاً ، وبذلك تكون قدوة حتى في صراحتها وشفافيتها ، وفي سعيها إلى تصحيح ما تقع به من أخطاء .
إنّ المتقين ، وهم قدوات صالحة ، يقعون في الخطأ أحياناً لكنّ ميزتهم عن سواهم ، أن سواهم تأخذه العزّة بالإثم فيكابر ويحاور ويناور لئلاّ يقال عنه أ نّه أخطأ ، فيما يؤوب المتقي إلى ربّه ويثوب سريعاً إلى رشده (إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون ).
و (طائف الشيطان) هو الخواطر الخبيثة والشريرة التي تخطر على بال الانسان ، لكنّه بما أوتي من قدرة إيمانية تصحيحية ، يعمل على طرد تلك الوساوس والتسويلات والخواطر ، ليعود إلى سابق عهده ونقائه ، كالنهر تتساقط بعض الشوائب لتلوثه لكنّه سرعان ما يعود إلى صفائه من جديد .
مواقفُ من السيرة النبوية تبيِّنُ أهميةَ القُدوة وأثرَها:
ولقد تجلَّى تأثيرُ القُدوة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجَدوَاها الكبيرة - التي لا تتوافر لمجرد الدعوة النظرية - في كثير من المواقف التي كان لها ظروفُها الخاصَّة؛ حيث لا يُجدِي فيها مجردُ الأمر والكلام النظري، بل لا بد فيها من التطبيق العملي؛ ليتعمق أثرُها في النفوس، ومن ذلك ما يلي:
1- الزواجُ من امرأةِ الابنِ بالتَّبَنِّي:
كانت عادةُ التَّبَنِّي مُتَأَصِّلَةً بين العرب قبل الإسلام، وكانوا يعاملون الابن بالتبني معاملةَ الابن من الصُّلبِ؛ فيحرِّمون الزواجَ من امرأتِهِ، ويُعظِّمون هذا الأمر جدّاً، فلما جاء الإسلام وَحَرَّم التَّبَنِّي، وأراد اقتلاعَ آثار الجاهلية من نفوس المسلمين؛ لم يكتفِ - في ذلك - بالدعوة النظرية لتحريم التبني وهدم آثاره؛ بل دَعَمَ تلك الدعوةَ النظرية بالتطبيق العملي؛ فأُمِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتزوج من زينبَ بنتِ جحش - رضوان الله عليها - التي كانت زوجةً لزيدِ بن حارثة، الذي تَبَنَّاه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وكان يُدْعَى زيدَ بنَ محمد؛ قال - تعالى -: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37].
وهكذا أجرى الله - عز وجل - إبطالَ الآثار الجاهليةِ للتبنِّي "على يد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومولاهُ زيدِ بن حارثة، وابنةِ عمته زينب بنت جحش؛ ليكون درساً عمليّاً قويّاً، في تحقيق ما أمر الله - تعالى - به، وتنفيذه؛ مهما كانت الرَّغبةُ والهوى، ومهما كانت الآثارُ والنتائجُ.
وهذا شأن المؤمن دائماً مع اللهِ - تعالى - وأوامرِهِ؛ يسمعُ ويطيعُ، ويلبي ويستجيبُ، رَغِبَتْ نفسه في ذلك أم لم تَرْغَبْ، وافقَ المجتمع - مِن حولِه - أم لم يوافِق، رضي الناس عن فعله أم كرهوا!! فالأمر أولاً وأخيراً لله رب العالمين"[3].
2- النَّحْرُ والحَلْقُ للتحلُّلِ من عُمْرَةِ الحُدَيِبِيَةِ:
لما صدَّ المشركون الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه عن البيت الحرام، حين أرادوا العمرة عام الحديبية، وبعد إبرام الصلح مع قريش؛ كان وقع ذلك عظيماً على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أمرهم - عليه السلام - بنحر ما معهم من الهَدْي ليُحِلُّوا من إحرامهم؛ لم يستجب أحد من الصحابة لهذا الأمر، مع شدةِ حرصهم على طاعتِه، - صلى الله عليه وسلم -.
وهنا يتجلى الأثرُ العظيم للقُدوة؛ إذ أشارت أمُّ سَلَمَةَ - رضوان الله عليها - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يقوم هو أولاً فينحرَ بُدْنَهُ ويحلقَ شعرَه؛ لأن صحابته سيقتدون به عند ذلك لا محالة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فخرج، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نَحَرَ بُدْنَهُ، ودعا حالقَه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فَنَحَروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً! "[4].
ففي هذه القصة دلالة ظاهرة على التفاوت الكبير بين تأثير القول وتأثير الفعل؛ ففي حين لم يتغلب القولُ على هموم الصحابة وتألُّمِهم مما حدث؛ فلم ينصاعوا للأمر؛ نجدهم بادروا إلى التنفيذ؛ اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين تحوَّل أمرُهُ القَولي إلى تطبيقٍ عمليٍّ؛ حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً. ولهذا يدعو الإسلام إلى دعم القول بالعمل، ومطابقة الأفعال للأقوال، قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
ويطول بنا الأمر جدّاً؛ لو حاولنا استقصاء المواقف التي كان فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوةً لأصحابه، وإنما يمكن القول - إجمالاً - بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قدوة لأصحابه في كل شيء، وفي جميع المجالات..
ففي الغزوات يتقدمُ الصَّحابةَ، أو يوجِّههم من مركز القيادة، وكان في غزوة الخندق يربطُ الحجر على بطنه! ويحفر الخندق مع الصحابة، ويرتجز مثل ما يرتجزون؛ فكان مثالاً للمُرَبِّي القدوة، يتبعه الناس، ويعجبون بشجاعته وصبره، - صلى الله عليه وسلم -.
وكان قدوةً في حياته الزوجية، والصبرِ على أهله، وحُسن توجيهِهِنَّ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((خَيْرُكُم خَيْرُكُم لأهْلِهِ، وَأَنا خَيْرُكُم لأَهْلِي))[5].
وكان قدوةً في حياته الأبوية، وفي حُسن معاملته للصِّغار، ولأصحابه، ولجيرانه، وكان يسعى في قضاء حوائجِ المسلمين، وكان أوفى الناس بالوعد، وأشدَّهم ائتماناً على الودائع، وأكثرَهم ورعاً وحذراً من أكل مال الصدقة، أو الاقتراب مما استرعاه الله من أموال المسلمين.
وكان أفضلَ داعيةٍ إلى الله - سبحانه - يصبرُ على الشدائدِ الناجمةِ عن كيد أعداء الله وأعداء الفضيلة وتواطئهم، وكان حازماً لا يفقد حزمَه في أشدِّ المواقفِ هولاً وهَلَعاً وجَزَعاً؛ لأن ملجأَهُ إلى الله - سبحانه - يستَلْهِمُ منه القوةَ والصبر، وموقفُهُ من ثقيفٍ في الطائفِ - عندما ذهب لدعوتهم - خير دليل على ذلك[6].
تأثيرُ القدوةِ الصالحةِ في الأطفال:
لا يَسْهُلُ على الطفلِ إدراكُ المعاني المجردة؛ لذا فهو لا يقتنعُ بتعاليمِ المربي وأوامره بمجرد سماعها، بل يحتاج مع ذلك إلى المثالِ الواقعيِّ المشاهَدِ، الذي يدعمُ تلك التعاليمَ في نفسِهِ، ويجعله يُقْبِلُ عَلَيها ويَتَقَبَّلُها ويعملُ بها.
وهذا أمرٌ لم يَغْفُل عنه السَّلَفُ الصَّالِحُ، بل تَنَبَّهُوا له، وأَرْشَدُوا إليه المربين، فها هو عمرُو بن عتبةَ يُرشِد مُعلِّمَ ولدِه قائلاً: "لِيَكُنْ أولَّ إصلاحُكَ لِبَنِيَّ إصلاحُك لنفسِك؛ فإن عيونَهم معقودةٌ بعينك، فالحَسَنُ عندهم ما صَنَعْتَ، والقبيحُ عندهم ما تركتَ! "[7]؛ وهذا يؤكدُ أنه لا سبيل إلى التربيةِ السليمةِ إلا بوجود قُدوةٍ صالحةٍ تغدو نموذجاً عمليّاً للامتثال للأوامر، والاستجابة لها، والانزجار عن النواهي، والامتناع عنها[8].
وقد كان شبابُ الإسلام وناشئوه في عصر النُّبوَّةِ يحرِصون على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقليدِهِ ومحاكاتِهِ في جميع أمورِهِ؛ في وُضُوئِهِ، وصلاتِهِ، وقراءَتِهِ للقرآن، وقيامِهِ، وجلوسِهِ، وكرمِهِ، وجهادِهِ، وزهدِهِ، وصلابتِهِ في الحق، وأمانتِهِ، ووفائِهِ، وصبرِهِ... إلخ[9].
ومما يروى من ذلك: ما أخرجه البخاريُّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:
((بِتُّ عند خالتي ميمونةَ ليلةً، فقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في بعض الليل، قام رسول الله فتوضَّأ من شَنٍّ معلَّقٍ[10] وُضوءاً خفيفاً، ثم قام يصلي، فقمتُ فتوضَّأتُ نحواً مما توضأَ، ثم جئتُ فقمتُ عن يساره، فحوَّلني فجعلني عن يمينِه، ثم صلى ما شاء الله... )) الحديث[11].
وأولُ المطالَبين بالقدوةِ الحسنةِ هما الوالدانِ؛ لأنَّ الطفلَ الناشئَ يراقبُ سلوكَهما وكلامَهما، ويتساءل عن سبب ذلك، فإن كان خيراً فخير.. فهذا عبدُ الله بن أبي بَكْرَةَ يراقبُ - وهو طفلٌ - أدعيةَ والدِهِ، ويسألُه عن ذلك، ويجيبُه والدُه عن دليلِ فِعْلِه هذا:
فعن عبدِ الله بن أبي بَكْرَةَ - رحمه الله - قال: (قلتُ لأبي: يا أبتِ، أسمعُك تقول كلَّ غَدَاةٍ: "اللهمَّ عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت"، تكرِّرُها ثلاثاً حين تصبحُ، وثلاثاً حين تمسي؟! فقال: يا بني، إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهن، فأنا أحب أن أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ)[12].
فالوالدان مطالبان بتطبيق أوامرِ الله - تعالى - وسنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - سلوكاً وعملاً، والاستزادةِ من ذلك ما وَسِعَهم ذلك؛ لأنَّ أطفالَهم في مراقبةٍ مستمرَّةٍ لهم، صباحَ مساءَ، وفي كل آنٍ، "فقدرةُ الطفل على الالتقاطِ الواعي وغيرِ الواعي كبيرةٌ جدّاً، أكبرُ مما نظنُّ عادةً، ونحن نراه كائناً صغيراً لا يدرِك ولا يَعي"[13].

ليست هناك تعليقات: